لا أستطيع أن أصف لكم حزني على فراق أصدقائي الذين أودعهم وانا عائد الى وطني، لقد اكتسبت في هذه الرحلة صداقات لا يمكن أن تنتهي أو أن أنساها، منذ اليوم الأول لوصولي تعرفت عليهم واحداً تلو الآخر، ويشرفني أن أكتب عنهم واحداً واحداً في مدونتي، وهذا ما سأفعله بعد رجوعي.
في هذه اليومية أوجز لكم مرة أخرى وقائع زيارتي الى الهند في دورة تدريبية بعنوان “تقنيات متقدمة في تصميم صفحات الانترنت”، فقد وصلت الى دلهي وعشت في بدايات الوصول صعوبة التأقلم مع الجو الجديد.  لكن سرعان ما بدأت التأقلم مع الظروف الجديدة خاصة مع التقائي بزملاء من كل دول العالم، ومنهم بدر من السودان ومالك الفلسطيني المقيم في سوريا، حيث بدأت بالتعرف على دلهي المدينة الرائعة، وتجولت فيها وركبت قطار الأنفاق السريع والحديث. كان الدعم النفسي والمعنوي الذي قدمه مالك لي كبيراً، وللأسف فقد أضعت عنوانه الالكتروني وآمل أن أتواصل معه لاحقاً…
بدأت بالتدريب في شركة تسمى (CMC Limited) وهي شركة كبيرة تضم أكثر من خمسة آلاف موظف، وتقدم خدماتها في مجال الاستشارات والدعم الفني والبرمجة للعديد من القطاعات في الهند وخارجها، ومن ضمن خدماتها خدمة التدريب والتطوير. يدير فرع التدريب في هذه الشركة وعدد موظفيه ألف وخمسمائة موظف تقريباً رجل رائع بكل المقاييس، يدعى المستر بالي، ومع أنه مسؤول عن هذا العدد الضخم من الموظفين الا أنه غاية في التواضع والأدب، مكتبه المتواضع مقسوم الى أربع مربعات، حيث يجلس نائبه الى المربع المجاور، والمحاسب في المربع المقابل، والسكرتيرة بالمقابل القطري. لا أذكر أنني توجهت يوماً الى مكتبه وصدّني أحد، أو أشار الي أحد بضرورة أخذ موعد مسبق كما هو الحال في الدكاكين الفلسطينية التي تعودنا عليها…بل بمجرد دق الباب يجيب بكل تواضع: يس سير، كم بليز…
أصدقائي الذين نسجت معهم علاقة شخصية واهتممت بهم كثيراً انتخبوني قائداً للصف، ولقد سعدت كثيراً بهذا الاختيار الذي يحملني مسؤولية قيادية لأول مرة في حياتي، وبذلت جهدي لإرضاء زملائي ولملء وقت فراغهم ولحل مشكلاتهم. وازداد حبهم لي بعد العرض المميز الذي قدمته لهم عن فلسطين وقضيتنا التاريخية…عرضت لهم نضالنا في وجه الاحتلال وصوراً من العذابات اليومية التي نمر بها، ثم عرضت لهم جذور القضية الفلسطينية من خلال مادة زودني بها زميلي علاء من العلاقات العامة في الجامعة، ثم عرضت لهم أوجه الابداع والتحدي في حياتنا اليومية، حيث الجامعات المتقدمة وصور النجاح، والمدارس والحياة البسيطة التي يعيشها الناس المسالمون…بعد انتهاء محاضرتي عن فلسطين كانت ملامح التأثر بادية في وجوه زملائي، بعضهم بكى من التأثر بما يحصل في وطننا. الكل صار يسلم عليّ بحرارة أكثر من السابق، وتهافت جميعهم على أخذ نسخة من ملف العرض الذي قدمته…
أعتقد أنني أوصلت الرسالة التي يجب على كل فلسطيني أن يحملها الى العالم، اليوم استطعت أن أضيف الى مجموع المحبين في العالم أكثر من ستين أجنبياً قدمت لهم عرضي عن فلسطين.
الهند كما أسلفت لكم بلد جميل، ذو عمق تاريخي بعيد، وصفحات التاريخ تستطيع قراءتها من دلهي الى جيبور الى أجرا وغيرها من الأماكن التي تسعد بزيارتها للراحة والتفكر.

أيام الوداع
اليوم هو آخر يوم لي من أيامي الهندية، قبل ثلاثة أيام بدأت فعاليات الوداع في المؤسسة التي درسنا فيها، جلسة تقييم لأداء البرنامج، ثم استلام الشهادات والامتحان الأخير الذي كان مسك الختام، ثم استلام الشهادات من مدير عام الشركة.
بدأت بحزم حقائبي وما استطعت شراءه من أسواق الهند، من هدايا وبهارات للاقارب والأصدقاء… واضح أنني تجاوزت بكثير الحد المسموح حمله في المطار. لكن ومع ذلك نؤمن نحن الفلسطينيون أن لكل مشكلة حل، وهذا الايمان دفعني لأن أشتري حقيبة ثانية لأن حقيبتي الأولى لم تعد تستطيع التنفس.
في يوم سفرنا، وقبل اقلاع طائراتنا الى بلداننا، عقدت لنا الشركة حفلاً ختامياً فاخراً، اشتمل على كل أصناف الطعام وألقيت في هذا الحفل كلمة الخريجين التي كانت مليئة بالعاطفة والمشاعر الحزينة على الفراق…
أصدقائي آشوت الأرميني وايرينا الروسية وبلجيه المنغولي لم يحضرو الحفلة نظراً لأن مواعيد اقلاع طائراتهم تحين في أثناء الحفل، ودعنا أصدقائنا قبل توجهنا الى الحفل، وكان جو الحزن مخيماً على المشاركين، لكن في نفس الوقت فإن فرحة الرجوع الى الوطن كبيرة أيضاً… ووعدنا الذي قطعناه على أنفسنا أن نبقى الأصدقاء المخلصين كان الأمل الذي يجعل الوداع مؤقتا على أمل اللقاء مرة أخرى.
بعد انتهائي من القاء كلمتي أشار علي صديق بأن محمد الشاب الفلسطيني الملتحق بنفس البرنامج لكن ضمن صف اللغة الانجليزية يواجه صعوبة بالتنفس وعليه قمت بإصطحابه الى المستشفى مع صديق أرميني آخر، وطمأننا الأطباء عليه.
صديقي آشوت والذي اتصلت به لعلي أتمكن من لقاءه آخر مرة، كان قد غادر الفندق للتو الى المطار عائداً الى أرمينيا، تحدثنا وكانت نبرته تدل على أنه مغرورق في دموعه…وتعاهدنا على اللقاء ثانية ودعوته الى الحضور الى فلسطين…لا أعرف ما سر العلاقة الطيبة التي ربطتنا سوياً أنا وآشوت الأرميني، ومحمد وشابين آخرين أرمينيين، سأل بدر الدين السوداني أشوت ذات مرة عن هذه الملاحظة، فقال له: حب فلسطين وشعب فلسطين هو جزء من تركيبتنا البيولوجية الأرمينية.

بعد ساعتين أركب الطائرة عائداً الى وطني، ومشاعر الحزن تتزايد ودقات القلب تتسارع، بعد قليل أترك غرفتي وفندقي، أحمل أمتعتي وأتجه الى الشارع، أبكي دلهي هذه الليلة وأنا متألم على فراقها أكثر من ألمي يوم فراق فلسطين، ولا أدعي حب دلهي أكثر من فلسطين، لكن فلسطين هي الأم التي سأعود اليها مهما طال الغياب، و يعلم الله وحده متى سأعود الى تلك المدينة وهذه الأرض…
جولتي وحيداً في ساعة انتصاف الليل أسقطت الدمع من عيني وأنا قليل التأثر عادة بالمواقف العاطفية، لكن يبدو أن فراق دلهي أوقع في نفسي ما يكفي لكي يقع الدمع من عيني…
أصدقائي الذين بدأو بالتجمع لوداعي في الشارع بعد ساعة من انتصاف الليل (بدر الدين السوداني، باكيت الكرجستاني، كاريل وكارلوس الكوبيين، نيلو النيبالية، هيلتون الانجليزي، وعبد الصمد وزلماي الأفغانيين وغيرهم من زملاء من صفوف أخرى) وقفو صفاً واحداً لوداعي وصديقي محمد الذي بكى كما يبكي الأطفال، وأعذره لذلك فقد برر أنه لا يمكن له أن يجد أصدقاء أعز من أصدقاءه الأرمن، وأنا من جانبي لا أعترض على ذلك، فصداقتي لآشوت كانت صداقة من هذا النوع من الصداقات التي تستمر ما استمرت الحياة…
عدت الى وطني ووصلت الى فلسطين، ربوع فلسطين الخضراء حضن دافيء لايوجد في الدنيا مثله، ويستحضرني قول اليمام (هب جنة الخلد اليمن، لا شيء يعدل الوطن)، على جوانب الطريق من أريحا الى نابلس أرض خضراء ممتدة مليئة بالزرع والأشجار، ولا يشوب هذا الجمال الا حواجز طرق نصبها الاحتلال على الطريق…أهلاً بك الى فلسطين…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *