أتى مصعب من الشام وأصله من تدمر، المدينة الأثرية الجميلة.. جاء سعياً وراء حلمه ورغبته في إكمال تعليمه وخلاصاً من أزمة بلاده وما عانته من ويلات. خرج باحثاً عن فرصة وضوء في آخر النفق.
التقيته صدفة في مكتب التسجيل في أول أيام الدراسة اثناء استخلاص الأوراق اللازمة للإقامة والدراسة والتسجيل والسكن. تعرفت عليه بسرعة وانسجمنا ولا عجب، فهو ابن دمشق الكبرى وأنا من دمشق الصغرى.
خلال أيام انتقل للسكن معي في نفس المكان، وبدأت رحلتنا للتعارف واكتشاف نقاط التشابه والاختلاف.. تنافسنا قليلاً في المأكولات، فهو يبدع في الأكلات السورية اللذيذة، ورددت عليه ببعض الأكلات النابلسية مثل المقلوبة والكنافة والفتة وغيرها.
درس مصعب في جامعة دمشق، وتخرج وعمل في العاصمة بعيداً عن عائلته في تدمر. تشابهنا في ألم فقدان الأم، وفي كثير من قصص الحياة. واجه الكثير من أعداء النجاح في بيئته وعمله ومجتمعه وانتصر عليهم.
مصعب باحث متميز في مجال اختصاصه، ولديه فهم عميق لمنهجيات البحث العلمي. كان مثابراً صاحب رسالة وهدف. أدرك الفجوة في أنظمة التعليم بين بلادنا ومكان دراستنا الحالي، وسرعان ما سدّ هذه الفجوة مجتهداً وساهراً ومبدعاً. أخجلني بإصراره ومثابرته، فكثيراً ما كنت أنام وهو مستيقظ يكدّ بحثاً في مجال دراسته، وكثيراً ما استقيظت ووجدته قد سبقني وأضاء مكتبه وبدأ عمله البحثي مبكراً.لقد كان مصعب حافزاً قوياً لي للدراسة والبحث، ولم أكن أستسيغ الراحة في الوقت الذي كان يقضي جلّ وقته في أوراق البحث وعلى شاشة حاسوبه الصغير ودفاتره ملاحظاته.
لم يكتف مصعب بمنحته الدراسية، فطموحه تجاوزها الى ما هو أكبر، فبحث بجد عن عمل في بودابست، طمعاً في استجلاب أسرته ولم شملهم معه. في النهاية عمل في شركة عالمية وبوظيفة تناسب اختصاصه وخبراته السابقة، وتميز في وظيفته وتقدم بها شيئاً فشيئاً. ووازن بين عمله وتعلمه ونشره للأبحاث.
تطور عمل مصعب بسرعة، وانتقل إلى العاصمة بودابست ليكون قريباً من عمله، خاصة وأننا قد أنجزنا مرحلة الدراسة الأولى (السنتين الأولى). استأجر شقة في بودابست تمهيداً لاستقبال أسرته الصغيرة بعد أن استطاع أخيراً استخراج لم شمل لهم. وحسناً فعل، فقد نال بعض هدوء البال بحضور أسرته وشعر ببعض الاستقرار، خاصة مع ازدياد قسوة الحياة في دمشق. تعرفت أخيراً على ابنته “حلا” التي كان يقضي الساعات وهو يتحدث معها على المسنجر أثناء سكننا معاً. بعد لقائها، وجدتها لطيفة كنسمة الهواء، ولها أيضاً من اسمها نصيب. وقد رزقه الله بإبنته الثانية “ميلا” في بودابست، وأصبح لدى مصعب أسرة يعولها كان الله في عونه.
تخرجنا أنا ومصعب في فترة كورونا، ولم نحصل على حفل التخرج الذي كنا نتمناه، وعدت إلى فلسطين في ظل الجائحة، وبقيت الأخوة والصداقة بيني وبين مصعب وبقي التواصل. وهو اليوم يعمل أكاديمياً في إحدى الجامعات المجرية، إضافة إلى عمله في أحد البنوك العالمية محللاً مالياً. كما أنه لا يزال مواظباً على البحث العلمي والنشر في مجال تخصصه.
لا يتوقف طموح مصعب ولا سعيه لتحقيق ذاته وتغيير ظروفه للأحسن. أشهد أنني لم أجد زميلاً عصامياً ومثابراً كمصعب، لقد كانت قصة نجاحه إلهاماً وحافزاً للعديد من الناس الذين كنت أقص عليهم قصته. أعلم أن هذه السطور الجافة لا تنقل الحقيقة كما لو حدّثتكم بها بنفسي وبصوتي. لا تكفي هذه السطور لأعبر بها عن اعتزازي وفخري بصديق عزيز ونموذج الإنسان السوري المبدع، الذي استطاع النهوض من بين الرماد كطائر الفينيق ليصنع لنفسه حياة جديدة رغم كل التحديات.
لقد تعرفت في الغربة على العديد من الشباب السوريين، وجدتهم مثابرين وجادين ومخلصين في علمهم وعملهم. ولعل نجاح السوريين في العالم كله بعد انتشارهم بعد أحداث بلادهم وتميزهم في العديد من المجالات أكبر دليل على قدرة هذا الشعب العظيم على الخروج من أزمته واستعادة أمجاده وعافيته بسرعة.