للعام الثاني على التوالي أشارك في احتفالات التخريج في جامعة النجاح الوطنية وبحكم طبيعة عملي مصوراً لهذه الاحتفالات رأيت كيف يبتسم الأهل ويفرح الآباء والأمهات، وتقف النساء مزغردات وعيونهن تنظر في أوجه أبنائهم مليئة بدموع الفرح، رأيت كيف يُقبل الأبناء على آبائهم مقبّلين أيديهم، الوالد متماسك تماماً كما هم الرجال دوماً لا يظهرون مشاعرهم العاطفية ولا يحبون إظهارها مكابرة لرجولتهم وثُقلهم، أما الأمهات فيقبضن على أبنائهم محاصريهم من كل جانب و يقبلنهم، ويركع الابن شاكراً ويقبل يدي أبويه، ويقول الأب بكل جمود واقف على شفا الانهيار “الله يرضى عليك يا ابني”…

مشاهد مليئة بالعاطفة والشعور الندي بالدموع الهاربة من مآقي العيون، تخرج معها آمال العائلة بأن يستمر ابنها بالتفوق والنجاح وأن يبقى كما هو دائماً أفضل رجل على وجه الكرة الأرضية، اليوم خرج الابن من مرحلة التلقي إلى مرحلة العطاء، من اليوم يجب أن يعثر على عمل لطالما قل في فلسطين أن يعثر عليه، لكن يبقى الامل موجوداً وبنسبة كبيرة…

لا أعرف ما الذي ربطني بهذه المشاعر لدرجة أنني شاركت بعض الناس مشاعرهم بالدموع، لأكثر من مرة نزلت دموعي وتركت الكاميرا تهرب دونما شعورً بذلك دون أن أعرف السبب… 

رحم الله والدتي التي أفنت عمرها من أجلي وأجل إخوتي، رحلت والدتي في نفس اليوم الذي تخرج منه أخي من جامعة بيرزيت، كان يوم الاثنين الحزين الذي بكيت فيه كما الأطفال تبكي، لم أرد يومها أن أطلق دمعة واحدة كي لا ينهار أبي الذي لطالما نظرت إليه وكأنه الجبل الراسخ الذي يمسك بزمام الأمور ويدير الأمور بالحكمة والرجولة المعهودة، وما إن رأيت عيون أبي الحمراء حتى انهرت باكياً صارخاً فقدان أمي…

كانت أمي معلمة منذ نهاية السبعينات في الكثير من المدارس خارج نابلس ثم حضرت لإدارة إحدى مدارس نابلس الحديثة بعد أن لم تعد تستطيع تحمل مشاقّ السفر اليومي خارج نابلس نظراً لإصابتها بالمرض الخبيث والحاجة لبقائها لكي يستطيع والدي ايصالها يوميا إلى المدرسة، وقف والدي إلى جانب أمي في فترة مرضها وكان حنوناً علينا وازداد حنانه بعد وفاة أمي وكأن الله قد أعطاه حنان أمي.

كانت أمي دائما المسؤولة عن نجاحنا في الدراسة لمتابعتها لنا وسهرها معنا وكأنها كانت تقدم التوجيهي نيابة عنا كل عام على مدى ثلاثة أعوام متتالية. وعندما كنا ننجح كان أقاربي يهنئونها على نجاحها بنا وكان والدي يحتفل بها أكثر مما يحتفل بنا، وفي أيام الجامعة كانت أمي تعاون أبي في مصروفنا وعندما يضيق الحال عليه ويستصعب عليه السوق فلا يوفر قسطنا كانت أمي صمام الأمان الذي يهب منجداً لنا كما يقول المثل “من تحت البلاطة”.

أشعر أحياناً أنني وإخوتي المسئولون عن موت أمي، لأننا لم نمنحها يوماً أو إجازة للراحة، كانت مضطرة للاستمرار بالعمل وتأخير التقاعد لأطول فترة ممكنة لكي تضمن مستقبلنا وتوصلنا إلى بر الأمان.

 أذكر عصر ذلك اليوم الذي كان آخر يوم من أيام أمي، كنت موجوداً معها وكانت تنظر إلي بابتسامة العارفة بالنهاية مع غروب نفس اليوم. حضر أبي وبقينا سوياً إلى أن أتي أخي الكبير والذي طلبت منه أمي أن يتوجه وحيداً إلى جامعة بيرزيت ليشارك في حفل التخرج.  بعد أن كانت أمي على سرير المرض تحاول تأخير موتها وكأنها تتحدى آية الله الكريمة “فإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون” على أمل أن يعود أخي. وكانت مشيئة الله أن ترى أمي أخي عائداً من بيرزيت بثيابه التي أفنت حياتها لكي تراها على كل واحد منا، دخل أخي بروب التخرج حاملاً شهادته وابتسامته وعيونه الدامعتين، أمن المعقول أن أرى أمهات رفقائي ولا أرى أمي معي في يوم تخرجي؟؟؟

 عندها قالت له أمي اذهب وأحضر شوكولاته لكي أحلي المرضى في المستشفى، وذهب أخي وأحضرها لتحاول أن تحمل العلبة بنفسها وتتجول بين الأسرّة والغرف في المستشفى لكنها لم تستطع، كنا نعلم أن أمي تعدُّ لحظاتها وأنفاسها الأخيرة حسب ما أخبرنا به الأطباء، فصرنا نُحضر لها المرضى من الغرف المجاورة وكانت تحمل العلبة بيدها وتقدم الشوكولاته بكل فرح وكلنا كان فرحاً بذلك إلا أبي الذي شاهدته ودموعه تنزل من عيونه الحمراء بعد ان خرج إلى ممرات المستشفى ووقف بجانب باب قيل أنه يتم إخراج المرضى الموتى منه في العادة بعد وفاتهم على سرير المرض.

وحيث أنني تعبت من البقاء مع أمي وأتى دور خالاتي وآخرون، عدت إلى البيت لكي أرتاح قليلاً، وما ان وما أن رفع أذان المغرب تسارعت دقات قلبي عندما رن الهاتف وإذا به والدي ينعى لي أمي..

لعل ما شاهدته اليوم والعام الماضي في احتفالات التخرج من مشاعر جياشة بين الأهالي وأبنائهم وخصوصاً الأمهات منهم، كان حلقة الوصل بين دموعي ودموع أمهات الخريجين. لقد فقدت ذاك الصدر الحنون الذي لم يضمني يوم تخرجي، صدر أمي.

أتمنى كل عام أنني لو كنت مكان أي من الخريجين وكانت أمي تزغرد لي في تخرجي وتحتضني باكية دموع الفرح. لقد ماتت أمي متعبة من الأيام التي تعبتها لراحتنا، ولم يتسنى لها أن ترتاح لرؤيتنا يوم تخرجنا أنا وأخي و أختي التي أمضت فترة مرض أمي بدراسة امتحانات الثانوية العامة وظهرت نتائجها في يوم العزاء الثاني فلم نعرف ماذا نفعل يوم كنا بالعزاء، هل نبارك لأبي نجاح أختنا أم نبكي أمي التي لم يمهلها المرض لتجني ثمار تعبها وسهرها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *