حدثني جدي رحمه الله، وفي ذاكرتي الكثير من قصصه العظيمة، عن الصراع الذي نشب بين المجلسيين (جماعة “سيف الدين الحج أمين” قصده عن الحاج أمين الحسيني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى) والمعارضين (جماعة النشاشيبي) في عموم فلسطين في منتصف الثلاثينات، في فترة الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية التي كانت تسعى لإقامة كيان صهيوني على أرض فلسطين.

حيث أقامت المعارضة مهرجاناً خطابياً انتخابياً حاشداً في منزل أحد العائلات النابلسية العريقة الواقع في شارع بليبوس (حكى لي الاسم وأتحفظ عليه)، وقد طلب زعيم المعارضة وقتها من المُقريء الشيخ قراءة آيات من القرآن الكريم في افتتاح المهرجان الخطابي.. وقد كانت هذه الآيات بعد “بسم الله الرحمن الرحيم”:

(وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28) سورة نوح)

في اليوم التالي واثناء جلوس المقريء في أحد المجالس، واذا بالمرحوم (أتحفظ على اسمه أيضاً) زعيم المجلسيين يَقرصه من أذنه ويقول له: “لمين قرأت هذه الآيات؟؟، احنا الـكفار؟” فارتبك المُقريء وقال له: هيك زعيم المعارضة حكالي أقرأ..

فرد زعيم المجلسيين (وهو من عائلات نابلس العريقة أيضاً) أنه سيدعو الى مهرجان انتخابي خطابي غداً وعليه الحضور لقراءة الآيات الافتتاحية، حتى لا يتم احتساب المقريء على أي طرف، وقبل المقريء الفاضل (وإسمه عندي ايضاً رحمه الله)..

في اليوم التالي قرأ المقريء الآيات التالية بناءً على تعليمات زعيم المجلسيين: “وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ۚ وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) سورة الأحزاب”

وبين الفصيلين الكبيرين وقتها.. وتوظيف الوطنية والخطابات الرنانة وآيات القرآن المُحكمة، ضاعت فلسطين.. وكما يقول المثل: “بين حانة ومانة ضاعت لحانا”.. ولا حول ولا قوة إلا بالله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *