وانتهى عام على أول يوم حللت به في دلهي عاصمة الهند، ولازالت ذكريات تلك الأيام في مخيلتي، يقول لي البعض لست أول من ذهب هناك، وليست آخر أيامك ما كان هناك، ولكن أيامي الهندية حفرت في ذاكرتي مشاهد يستحال أن تنسى، مشاهد لأناس ٍ يعيشون في ظروف غاية في الصعوبة، وحياة قاسية تكاد تكون أقسى من حياتنا نحن هنا، ففي فلسطين لم يحصل أن كان الرصيف بيتاً لأحد، ولم يحصل أن يقضي أناس أسبوعهم جوعى بدون طعام…أو سنين بدون لباس…لم يمت أحد من البرد القارص، ولم يعمل أحد لسنين دون أن يمسك ورق العملة في يده “السخرة”…

ومع كل محاولاتي لعدم المبالغة بتلك الظروف الا أنني أجد أن وصفي يقل بكثير عما شاهدته هناك، لازال في ذاكرتي ذاك الرجل المكوجي الذي كان يعيش هو وأمه المريضة وأولاده الأثنين وزوجته في بسطة (تناكية) العمل، فبعد التاسعة يغلق بسطته بغطاء هو عبارة عن شادر وتستطيع سمع تهامسهم اذا ما مشيت بجوارهم…لكن هذا الرجل تتملكه عزيمة شديدة، واحترام كبير لوالدته المريضة التي كنت أسمع صوت سعالها من غرفتي في الفندق في الطابق الثالث…

طفل وطفلة، اخوة يعيشون في الشارع، شاهدتهم ينامون الى جانب بعضهم على الرصيف بغطاء بسيط، أسفل أقدامهم أناس آخرون، يسهرون على نار أوقدوها، وآخرون يحاولون الانكماش على أنفسهم قدر الامكان لتوفير بعض الدفء لأنفسهم…

ورغم كل شيء كانت أيامي التي عشتها هناك من أروع أيام حياتي، رائعة بمعرفتي بثقافة هذا الشعب وديانته التي يخلص لها كثيراً، رائعة بتراثها وتاريخها، رائعة بآثارها ومعالمها الرائعة، الأمم المتجذرة في عمق التاريخ تمتلك عمقاً حضارياً يدفعها بثبات الواثق نحو المستقبل، وليالي دلهي المظلمة يقابلها شروق شمس جميل ونهار رائع، يبدأ من الافطار الذي لم يتغير على مدار الشهور الثلاثة التي عشتها هناك (بيض وخبز، عصير، كورن فلكس هندي، وقطعة فواكه)، ويمر برحلة الذهاب بالباص الى مركز التدريب الذي يتبع لواحدة من أكبر شركات تكنولوجيا المعلومات الهندية، وقضاء يوم مفيد وممتع مع أساتذة مخلصين في تعليمهم ومحبون لعملهم، ينظرون الينا نظرة احترام، ويشاركوننا الطعام والجلوس والتدريب، ثم رحلة العودة في زحمة نهار دلهي، ورحلات المساء التي كنا نخرج لنزور فيها بعض المعالم والتي لا زلت أتحسر على ترك زيارة بعضها، ثم عودتنا الى الفندق مع أول الليل لنرتاح استعداداً لحلقات النقاش والتبادل الثقافي مع الأصدقاء…والنوم متأخراً استعداداً لصفحة جديدة مختلفة عن صفحات اليوم السابق…

مشاهد الغربة تلك التي أحن اليها تجعلني أعقد المقارنات في كل مشهد من مشاهد حياتي اليومية…الطعام والشراب، البرنامج اليومي، احترام الناس للآخرين، المجتمع المسالم البعيد عن العنف…وكثيراً من المظاهر ولا أكذب عليكم ان قلت لكم أن تلك المشاهد باتت تعزز في نفسي كرهي المتزايد لرؤية الوجوه السوداء التي تمثل نظاماً قاتماً ينتزع من الانسان حريته ويقضي على طاقته. يملؤه بالاحباط ويشعره بالدنو والانحطاط…بعض الناس يظن الحديث عن المجتمع المسالم جزءاً من ثقافة مهزومة دافعها الشعور بالضعف. لكن برأيي فإن المجتمع المسالم أقوى من المجتمع العنيف الذي يحاول حسم أمره بالعنف من منطلق اجتثاث الآخر. أتحدث هنا عن المجتمع وتعامل فئاته مع بعضها وليس تعامل المجتمع ككل مع العدو الذي يحتل أرضه.

لقد استطعت في فترة وجيزة أن أتعرف الى أناس من قوميات وتوجهات وديانات مختلفة ومتعددة، واذا ما تحدثنا عن القوميات فإن العرب مميزون ومحبوبون، ونحن كفلسطينيين لم يختلف أحد ممن قابلتهم على أن قضيتنا عادلة ومن حقنا أن نتحرر ونعيش كبقية الشعوب، والأفغان لهم نصيب من التعاطف والاحترام ويذكرني هنا أننا تعرفنا على قوميتين من الأفغان هي البشتون والطاجيك، وقد تبين لي أن الطاجيك ومع أنهم أشداء في قوتهم وذوي بأس إلا أنهم ليسو بأخلاق وديانة البشتون ومنهم “عبد الصمد” الأفغاني الذي مهما وصفت أخلاقه ودينه وتقواه وبساطته ومحبته وأدبه وخجله فلن أبلغ الحق الذي يستحقه، يحفظ القرآن متزوج وله ست أبناء، يتكلم العربية الفصحى ولا يفهم اللغة الدارجة، يكثر من “جزاك الله خيراً” ويسألني كثيراً عن حالنا في فلسطين، وبدر الدين السوداني الذي لطالما كنا سوياً نتبادل النكات والأحاديث ونخرج سوياً ونشترك بالطعام ونسهر في غرفته ونبحث عن اللحوم الحلال سوياً…

المسلمون شامة بين الأمم، وصدقوني أن العالم ينظر لنا ويحسدوننا على هذه النعمة التي نعيش بها، ويحترمون عباداتنا التي كنا نحرص على تأديتها ولو في مركز التدريب، ولم يفتنا صلاة الجماعة في المسجد في يوم الجمعة أبداً ونحن هناك. فكنا نخرج ومعنا المسلمون من غير العرب (من قرغيستان، وبنجلادش وأفغانستان) وكان زملائنا الآخرون يحترمون ذلك فينا ويتساءلون عن سر هذا الإلتزام بهذا الدين، ولم نقصر يوماً في شرح مباديء الإسلام لكل من يسأل عنها، بل اننا بادرنا لأخذ آشوت الأرميني الى مركز اسلامي حيث تعرف الى دعاة يتقنون الروسية وتساءل عن عدد من المواضيع أجابوه عليها.

نور الأمين البنغالي مسلم ملتزم جداً أيضاً… كان دائماً ما يصرح ويثير التساؤلات، وقد طلبت منه أن يتوقف عن اثارة الحزازيات عندما يتم الحديث عن الاسلام، فالإسلام بالنسبة لنا معروف بمبادئه التي نؤمن بها، لكنه شيء غير مفهوم للآخرين، وما هو مقدس عندنا ليس مقدساً لدى غير المسلمين، يجب أن نتفهم ذلك عندما يتناول بعض الجهلاء بديننا بعض المظاهر السلبية التي قد يسلكها بعض المسلمين وتنعكس سلبياً على الاسلام كدين…

رحلتي الى الهند لازالت جزءاً من ذاكرتي التي لن أنساها، قد أعود يوماً الى هناك، أو قد أسافر الى بلد آخر، لكن لست متأكداً ان كانت انطباعاتي التي تولدت في زيارتي الأولى ستتولد ثانية، لكن الرحلة ثانية ستكون حلماً سأسعى لتحقيقه…


 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *